العمر يعبرني بسرعة . أفكر في كل شيء تحت السماء التي تفرغ غضبها فوقي لأني أسفلها .. هاتفي يرن وأنا مبتل . محدثي يسألني عن أحوالي ، وأنا أقول لهاتفي أني بخير . صعدت التاكسي . في سروالي أربع دراهم ورجلاي النحيفتين . حين يأخذ الراكب عند الطرف الآخر نفسه يلتصق خدّي بالزجاج البارد . المدينة القديمة قّدامي . هنا كل شيء يباع . سحنات بائسة . قهقهات صفراء . المتسولون عند باب الجامع يفوقون عدد المصلّين . نسوة يطلبن درهما في سبيل الله ، ولو أنك تريد شيئا -سيغضب الله حتما- آخر ، فعشرون درهما تكفي . أغنية لكامل المسعودي تلتقط بعض الصور من ذاكرتي وتبثها في شاشة عيني . كيلو من الزرّيعة نقليها جيدا في إناء مع رمل البحر ، وحديث لا ينتهي . الأحلام البيضاء والقادم من العمر . لم نكن نعِ أن الحلم هو الذي نعيشه .
ما أقسى أن تكون رجلا وفي قلبك طفل بريئ يتوق للعبث بكل صبيانية . ما أقسى أن تنظر إلى الحجر وتعود عن فكرة قذفه بكل ما أوتيت من قوة والمرآة تنقل لك جانبا من وجهك الذي أكلت منه السنون على غفلة منك . تراودني رغبة في الثورة ، أثور على جسدي الذي لا يشبهني ، أثور على الذين يسألون عن حالي ، أثور على من يصنفونني حسب مقدمة حذائي . الذي يعتقد أن السعادة غاية سيدركها بصنيعه ليس إلا تعيسا سيشقى إلى نهايته . السعادة هي تلك التي نصنعها في حاضرنا وسط دوّامة أشيائنا التي لا ننفك نتذمر منها . هذا ما فكرت فيه وأنا أقبض ثمن هاتفي . سأتناول بضع وجبات وأشتري علبة دواء وبعض التبغ . ولن أتساءل متى سأفلس ، سأعيش اللحظة . سأجر نفسا عميقا متخما ب 12 مج نيكوتين و 14 قطران وأنا أردد "قطران بلادي ولا عسل البلدان" .
العالم حولي يحاول أن يقنعني أن دوران الكرة أمر بديهي لا يتطلب أي جدل . أحاول أن أجعل الأشياء تستقر على أوضاعها . أتخيل وجهي ساعة وعيني عقربين ، ولا أتوقف عن الدوران . أطلق سراح قدمي . توقّفت أمام مقهى "بّا عرّوب" . ألفة تجمعني بهذا المكان وأصحابه . كل الوجوه هنا وجه واحد . مقامر يلعب بعض الأرقام ، ينقب من مصروف الشهر الزهيد ، يدسّ الورق في جيبه . يدخل بيته الصاخب بالفقر . الصبيان الذين يريدون أي شيء وينقصهم كل شيء . الزوجة التي تطلب مسحوق التصبين وعلبة السكّر . ورأس الشهر الذي يذكره بلعن من أسس نظام الفواتيير . يطبطب على جيبه ليتأكد من أن الورقة ملتصقة بلحم - عظم في الحقيقية- فخذه ، يلقي رأسه فوق المخدة وهو يحلم . ولأن الأحلام صممت كي تبقى أحلاما ، فلم يسبق لأحد أن ربح الكنز المنتظر .
أحد الملاعين يخبرني دائما أنه أيام الجامعة كان يحلم بأن يصبح "رجل أعمال" وبعد التخرج أدرك أنه رجل بلا أي عمل .. كل الذين أعرفهم كانوا -ولازالوا- يحلمون . أحلامهم لم تتغير ، لأن لا واحدة تحققت . تحدثّ كما أفعل كثيرا وخرجت قاصدا بيتي ، بي رغبة في عودة أدراجي بحثا عن حنجرتي تلك التي لخصت فيها كل رجولتي .. لكنّي لن أعود . المصابيح تستفزني بتوترها . كأنها تحاول أن تقنعني بأهميتها عند انطفاءها . لا تكسب سوى حقدي . كل شيء يسير بمنطق "سلّك وزيد من عندك" .